يقول هذا الكتاب: قال المتعلم -بعد ما تكلم على الإيمان وتعريف الإيمان، وأن الناس فيه سواء- أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟ فنلاحظ أن الشارح هنا جعل هذا الكلام كلام أهل الغلو، وهذا ابن فورك ينسبه إلى نفس الإمام، وهنا يتضح التناقض، فالمتعلم يقول له: كيف نستطيع أن نقول: إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، مع أنهم أطوع لله منا، أي: بعمل القلب أو عمل الجوارح؟ قال العالم: قد علمنا أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل.
إذاً: هو سلم بمقدمتين، المقدمة الأولى: أنهم أطوع لله منا، والمقدمة الثانية: أن الإيمان غير العمل، أي: أن الأعمال غير داخلة في الإيمان، ثم يقول: فإيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه.
إذاً: على كلام هذا الكتاب يقول: ما دمنا قد آمنا بمثل ما آمنت به الملائكة مما أخبر الله تعالى وآمن به الأنبياء، إذاً: يحق لنا أن نقول: إن إيماننا مثل إيمانهم! وحينما يشرح هذا الكلام بالطريقة المنطقية يقول: لأن تصديق القلب هو الإيمان، ونحن مصدقون بما صدقت به الملائكة، فيقول: قد قررنا أن الإيمان ليس العمل، وإنما هو مجرد التصديق بالقلب، فإذا اعتقد أي نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدق الله تعالى في أخباره، كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقه بلا تفاوت، فنحن متفقون في جنس التصديق، آمنا بمثل ما آمنوا به؛ لأن التصديق جنس واحد، والجنس لا تتفاوت ماهيته.
وهذه المصطلحات والعبارات لم تكن معروفة بهذا المعنى في أيام السلف وأيام الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ثم يقول: إن فضل الأنبياء في الإيمان على بقية الخلق إنما هو باعتبار العاقبة وباعتبار ثباتهم على الإيمان، وليس مثل بقية الناس لا يثبتون على هذا الإيمان، فيمكن لكل منهم أن يرتد أو يكفر والعياذ بالله، إلا الرسل والملائكة فهم معصومون من ذلك، قال المتعلم: يا حسن ما فسرت، ولكن أخبرني إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فما فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا، واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة، أي: إن كان الثواب واحداً لا تفاضل فيه، قال: وإن كان ثواب إيماننا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذ كان إيماننا مثل إيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟ فهو بين الأمرين: إما أن نقول: بأن الثواب واحد، فنكون آمنا وهم بشيء واحد، وأجرنا وهم في الآخرة واحد، وعلى ذلك ما فضل الأنبياء علينا؟ وإن قلت: إن الأنبياء يفضلوننا في الأجر، إذ إن أجرهم عند الله أكثر منا، فيقال: كيف يكون أجرهم أكثر ونحن وهم قد آمنا بإيمان واحد وبشيء واحد من جنس واحد لا يتفاضل ولا يتفاوت؟ يقول: قال العالم: قد أعظمت المسألة، ولكن تثبت في الفتيا، يقول: ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء. وهذا مخرج صحيح، حيث إن الأنبياء مفضلون علينا، فعبادتهم أفضل من عبادتنا، وصلواتهم أفضل من صلواتنا، وكل ما يتعلق بالأنبياء أفضل مما يتعلق بنا، أما الإيمان فهو واحد، فالأفضلية في الثواب ما جاءت من جهة أن عملهم أكثر، أو أن يقينهم أو إخلاصهم أو طاعنهم أو عبادتهم، وإنما جاءت أفضليتهم من منزلتهم، حيث إن منزلتهم عند الله أفضل من كل ما يتعلق بهم من عبادة أو صلاة أو أمور، فهو أفضل عند الله، يقول: ولم يظلمنا ربنا، إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم، وذلك إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، أما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا، وأعطانا حتى أرضانا، فإن ذلك ليس بظلم. فجعل القضية مثل قضية أفضلية المسلمين بالنسبة لأهل الكتاب، فالمسلمون بالنسبة لأهل الكتاب كما في الحديث: ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة )، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الطويل مثلاً بذلك فقال: ( كمثل رجل استأجر قوماً فعملوا له إلى الظهر، ثم استأجر غيرهم فعملوا من الظهر إلى العصر، ثم استأجر طائفة ثالثة فعملت من العصر إلى المغرب، فأعطى الله تبارك وتعالى الأولين حقهم كاملاً، وأعطى الطائفة الثانية -الوسطى- حقهم كاملاً، وأعطى الآخرين أجر عمل اليوم كله، فقال أولئك: لِمَ يا رب تفضلهم علينا؟ قال: هل أنقصتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أعطيه من أشاء )، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الأخيرة، لكنها تعمل قليلاً فتؤجر كثيراً، وهذا الذي ثبت في فضل هذه الأمة على أهل الكتاب، فجاء هذا فجعله نفس المثال في فضل الأنبياء على سائر الأمة، وهذا كلام لا يقر بأي حال من الأحوال؛ لأنه جعل الإيمان واحداً وجعل إيمان أي عامي مثل إيمان الملائكة وإيمان الرسل، إذاً هذه الشبهة الكبيرة التي يدفعها ويتبرأ منها الشارح رحمه الله، وكل من يفقه عن الله تبارك وتعالى دينه، لا يمكن أن يقر مثل هذا الكلام، فضلاً عن أن يكون من كلام الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، ومن هنا وجب أن نعلم أو أن نتبين أن ما جاء في مذهب المرجئة الفقهاء هو غير صحيح شرعاً، وساقط بالحجة العقلية كذلك، والمشكل في ذلك أنهم ينقلون وينسبون ذلك إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.